الحقيقة والأكذوبة ( 1 )
في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».
«المصري لايت» تنشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، عام 1994، وذلك بمناسبة اقتراب ذكرى وفاته في 30 يناير
1982.
«رسالة أخيرة على فراش الموت»
«لا أعتقد أنه من الإنصاف أبدًا أن يشتدّ بي المرض على هذا النحو، ولكن هذا أوصلني على الأقل إلى الاقتناع بأن أشرع فورًا في تدوين الحقيقة المتعلقة بي وبحياتي»، كلمات بدأ بها الجاسوس الراحل مذكراته، التي كتبها بخط يده وتركها لزوجته بعد وفاته، لتكشف لها الجانب الآخر من حياة زوجها، شخصيته المصرية التي تتخفّى خلف قناع إسرائيلي يحمل اسم جاك بيتون، لم تكن تعرف هي أن اسمه كان رفعت الجمال، لم يكن أبدًا يدين بالولاء لنجمة داوود الزرقاء وكان له عالم سري لم يفصح لها عنه أبدًا، وكانت السطور القادمة ستحمل لها كثيرًا من المعلومات عن شخصية زوجها، كانت المفاجآت قادمة وكثيرة.
«قد يقول قائل إنني عشت أكذوبة، لكن لم يكن أمامي خيار آخر. سأحاول أن أكتب كل شيء بلغة إنجليزية صحيحة قدر استطاعتي، وأنتِ يا (فالتراود) تعرفين أنني لم أكن قط أجيد الكتابة بالإنجليزية، فقد اعتدتِ دائمًا أن تصححي لي رسائلي، ومع ذلك فهذا بعض من حقيقتي، وأنا على ثقة من أنك ستفهمين كل شيء، وفور أن أفرغ من كتابة هذه المذكرات، سأعطيها إلى محامينا ليسلمها لك بعد ثلاث سنوات من وفاتي».
ربما يتساءل القارئ عن سر الثلاث سنوات، كما توقّع «الجمال» أن ينتاب التساؤل ذاته زوجته، ليطرح السؤال ويجيبه بنفسه: «لماذا ثلاث سنوات؟ حسنًا، أحسب أنه عندئذ سيكون قد مضى بعد الوفاة وقت كافٍ لتتماسكي وتصبحي فيه من القوة بحيث يمكنك تحمّل الصدمة التي ستشعرين بها عند قراءتك لهذا الكلام. إنني بصدد كتابة قصة حياتي الحقيقية، فثمة أشياء كثيرة لم تعرفيها عني، وكم أنا سعيد إذ أفرغ لك أخيرًا كل مكنون صدري، فعلى الرغم من أنك كنتِ رفيقة حياتي زمنًا طويلًا، فقد اضطررت لأن أعيش حياة المتوحد بلا رفيق أو صديق، لم يكن أمامي من سبيل آخر، احتفظت بكل شيء لنفسي رغمًا عني، حتى لا أعرضك أنت والطفلين للخطر، والآن حانت اللحظة التي استدعاني فيها الله، أشعر أنه يريدني إلى جواره».
واستطرد في رسالته: «ها هو مرضي ينهش جسمي من داخله، أحس بعض الألم وأخشى أن يزداد الأمر سوءًا، ليس الموت هو ما أخشاه بل الألم، فأنت تعرفين أني كنت دائمًا أخاف الألم مهما كان ضعيفًا، وأنا الآن على يقين من أنني مضطر إلى أن أصمد في مواجهة ما هو أسوأ».
لم يكن الألم يفارقه، ليس فقط بسبب المرض لكن كذلك بسبب حزنه على الآخرين، فأكمل رسالته قائلًا: «كم هو مؤلم أشد الألم على نفسي أيضًا أن أراكِ تعانين، وعلى الرغم من أنك تجاهدين بقوة لإخفاء المعاناة إلا أنني أستطيع أن أرى أنك تتعذبين، فأنا أعرفك جيدًا، وكم هو مرير على نفسي أيضًا أنني لن أستطيع أن أرى ابننا يكبر ويشب على الطوق، إنه الآن في السابعة عشر من عمره، في مرحلة يصبح بعدها رجلًا يافعًا، كم كنت أحب أن أكون له الهادي المرشد عبر سنوات نُضجه وتطوره، فقد راودني الأمل دائمًا في أن أراه في الجامعة، لكنني الآن لن أراه حتى حين يتخرج في المدرسة الثانوية، إن هذا ليؤلمني حقًا، هل تعدينني بأنك سوف تحرصين على أن يحصل على أفضل تعليم، أن تساعديه بكل قدرتك على المساعدة؟».
وتابع: «إنه لا يزال غرًا غير محنك تمامًا، بيد أن ثقتي فيه كبيرة. إنني على يقين من أنه سوف ينجح في كل ما يتصدى لعمله، لا يقلقك كسله، فقد اعتدت أن أكون كذلك، أعرف أنه يثق في ذكائه، ولكنني آمل في أن يكون مثابرًا دؤوبًا حتى يمكنك الاعتماد عليه. قولي لابنتنا إن بوسعها أن تثق تمامًا في أنني كنت أحبها دائمًا مثل حبي لابني. إني فخور بها، وأعرف أنها لن تخذلك. لا تكوني قاسية عليها، إنها شديدة الحساسية، وعلى الرغم من أنها عنيدة شيئًا ما إلا أنها تحبك وتحبني حبًا غامرًا، ولن تفعل أبدًا شيئًا يُغضِب أبويها».
وكأن الوقت يداهمه ويشعر بملك الموت يحوم حوله، قرر أن يختتم رسالته التمهيدية إلى زوجته: «أجد لزامًا عليّ أن أبدأ فيما أريد أن أبوح به إليك قبل أن يضيق الوقت ويحين الأجل، وقد بات حتمًا مقضيًّا. إنها قصة طويلة، وبينما تمضين في قراءتها سينمو السخط في نفسك عليّ، وتغضبين مني، وتودين لو أنك لم تلتقِ بي يومًا، غير أنني أعرف ما عرفته دائمًا، وهو أنك تحبينني حبًّا عميقًا جدًّا، ولك أن تثقي في أنني أبادلك نفس هذا الحب بنفس القدر. إن ما سوف تقرئينه هو الحقيقة كلها عن حياتي وعملي وشخصيتي. لا تُصدري حُكمًا قبل أن تفرغي من القراءة، وأرجو أن تصدقي أنني لم أكن أستطيع أن أفضي إليك بشيء، وإنني التزمت هذا النهج مُرغَمًا حمايةً لك وللطفلين. أنتم جميعًا حبي الأكبر، وأغلى شيء في حياتي».
وأنهى رسالته: «نحن الآن في شهر أغسطس 1981 ولست أدري كم بقي لي من الزمن قبل أن أقضي نحبي. أحس ببرودة في جسدي، وبأنني لستُ على ما يرام أبدًا، غير أنني سعيد إذ أستطيع أخيرًا أن أقصّ عليكم الحقيقة عن شخصي وحياتي، لذلك اقرئي هذه الصفحات لنلتقي من خلالها مرة ثانية، وكوني على يقين من أنك حبي الدائم، إن حبي لك وللطفلين لم يكن قط أكذوبة».
يكشف شخصيات عائلته الحقيقية (2)
«لقد ولدت في اليوم الأول من شهر يوليو من عام 1927 في مدينة دمياط بمصر، وهي مدينة تطل على الضفة الشرقية من الفرع الأيمن لنهر النيل، تقع على بُعد أحد عشر ميلًا من المكان الذي يصب النيل فيه ماءه في البحر المتوسط، ولعلك الآن تدركين لماذا كنت دائمًا أقرأ ما يرد تحت برج السرطان في أبواب الحظ في الصحف، على الرغم من أن جواز سفري يوضح أنني من برج الأسد. إن اسمي هو رفعت علي سليمان الجمال، كنت الشقيق الأصغر لثلاثة إخوة، أخي غير الشقيق سامي من الزواج الأول لأبي، وأخي الشقيق لبيب، وأختي نزيهة»، بهذه الكلمات بدأ الجاسوس المصري تعريف زوجته بعائلته وبقصة حياته في صغره.
واستطرد: «كان أبي، علي سليمان الجمال، تاجر فحم بالجملة، وشخصية محترمة لها مكانتها، ويحمل لقب «أفندي» الذي يعادل لقب «فون» في ألمانيا أو «سير» في بريطانيا العظمى. واسم العائلة الجمال، هو اسم الأب المؤسس لها، والذي استقر في دمياط منذ أجيال مضت، وتهيأت له فيها حياة ناجحة ميسورة بفضل تربية الجمال، ومن هنا جاء لقب الأسرة، الجمال، والذي يعني مُربّي الجِمال».
وأضاف: «كانت أمي رتيبة تنحدر من أسرة راقية، وكانت امرأة عصرية إلى حد ما، تتحدث الإنجليزية والفرنسية اللتين تعلمتهما في إحدى المدارس الخاصة. ولد أخي لبيب في العشرين من يناير 1923، أما أخي غير الشقيق سامي، الذي كان أكبر منا سنًا بفارق كبير، فقد أرسله أبي إلى القاهرة للدراسة تحت رعاية أقارب والدي، بعد أن قرر أن يلحقه بالمدرسة المتوسطة في القاهرة بعد أن أنهى بامتياز تعليمه في المدرسة الابتدائية بدمياط.
وعاد إلينا سامي في صيف 1930 وعمره سبعة عشر عامًا. كان قد أتم الدراسة الثانوية بتفوق والتحق بالجامعة ليصبح فيما بعد معلمًا للغة الإنجليزية. كان سامي يتحلى بمواهب عالية وكنت دائمًا شديد الإعجاب به، أذكر أننا التقطنا صورة تضم جميع أبناء الأسرة، فكان سامي هو الوحيد الجالس على مقعد وكنت أنا جالسًا في حجره، وكان هذا مدعاة لشعوري بزهو كبير، ولعلك تذكرين أنني قلت لكِ إن سامي كان معلمي عندما جاء ابنه محمد ليقيم عندنا في ألمانيا وقدمته لك باعتباره ابن أستاذي. كان سامي عاقلًا وحكيمًا ولذا كنت أكن له احترامًا عظيمًا».
واستمر في كشف أسراره: «أما أخي لبيب فكان من النوع الذي يُعمِل فكره ويحظى بقدرة جيدة على الحسابات، ومن ثم أصبح محاسبًا فيما بعد، وكنت أتعارك معه كثيرًا، غير أنه كان أخي في نهاية الأمر، هل تذكرين يوم أن حضر إلى بيتنا وقدمته إليكِ باعتباره رجل أعمال صديقًا من مصر. لم يلحظ أي منكم شيئًا فيما عدا ابننا دانييل الذي أصر على أن ثمة تشابهًا بيني وبين لبيب يشي بأننا أخوان، ولعلك تفهمين الآن سبب غضبي حين تشبث دانييل بملاحظته هذه.
كانت أختي نزيهة امرأة ذات قلب حنون طيب، والتحقت بمدرسة البنات الوحيدة في المدينة، وهي مدرسة خاصة. إنني أحبها كثيرًا جدًا إذ كانت دائمًا طيبة جدًا معي، حتى عندما تحتدم المنازعات بيني وبين سامي ولبيب.
كنت شيطانًا صغيرًا. لم تواجهني مشاكل تُذكر في المدرسة التي التحقت بها، وكانت هذه المدرسة أيضًا مدرسة خاصة مجاورة لمسجد عبدالغني المقابل لقسم أول شرطة. كنت كسولًا إلى حد ما، ولعلك تدركين الآن من أين جاء كسل ابننا.
تُوفي أبي عام 1936 وكنت في التاسعة من العمر، وكانت نزيهة في الحادية عشرة، وكان لبيب في الثالثة عشر، أما سامي، البالغ من العمر آنذاك الثالثة والعشرين، فكان قد تخرج في الجامعة منذ فترة، وأصبح يعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية في مصر الجديدة بالقاهرة، وأحسب أنكِ تعرفين مصر الجديدة جيدًا، حيث كان مكتب شركتنا (آجيبتكو)».
وأكمل «الجمال» قصته وهو على فراش الموت: «أصبح سامي رأس الأسرة منذ ذلك الحين، ومن ثم أتى بنا جميعًا، ومعنا أمنا إلى مصر الجديدة، كان يسكن في شارع يعقوب أرتين، المتفرع من ميدان الإسماعيلية، وأشرفت أمي على شؤون البيت، واستطاعت نزيهة أن تحقق حلمها، وتلتحق بالمدرسة الثانوية للبنات في مصر الجديدة.
التزم لبيب بمشورة سامي والتحق بمدرسة تجارية متوسطة، حيث تعلم إمساك الدفاتر والإدارة، والتحقت أنا بمدرسة ابتدائية حكومية تحت رعاية سامي كولي أمري. وفي صيف 1940، أكملت تعليمي بالمدرسة الابتدائية بتفوق، وستجدين في هذه الأوراق شهادتي المدرسية. كنت آنذاك في الرابعة عشر من العمر، وكان سامي يريد أن يتزوج ويبدأ حياته الأسرية الخاصة.
قرر سامي هو وأمي أن التحق بمدرسة تجارية للحصول على مؤهل متوسط، وإذا كنت أريد مزيدًا من التعليم الأرقى، فإن بإمكاني أن أعمل نهارًا وألتحق بمدرسة مسائية، وبذا يمكنني أيضًا أن ألتحق بالجامعة، وبدا هذا أفضل الحلول نظرًا لأن لبيب لم يكن راغبًا في رعايتي وتولي مسؤوليتي لفترة أطول كثيرًا، وهكذا تحدد مصيري، لم تكن لدي أدنى فكرة عن كل هذا وقبلت قرار عائلتي، ونظرًا لأنني كنت في الرابعة عشر من عمري فلم يكن أمامي خيار آخر».
بعد حديثه عن عائلته وشخصياتها في الحلقة الماضية، انتقل «الجمال» للحديث عن نفسه، في مذكراته، قائلًا: «كنت أنتمي إلى جيل الحرب العالمية، وتأثرت بالبريطانيين وحاولت أن أبدو بريطانيًا. كنت أتحدث الإنجليزية بلكنة بريطانية، والفرنسية بلكنة فرنسية، إذ كان معلمي من باريس. وتغير سلوكي بحكم الظروف المحيطة بي. وغضب شقيقي لبيب وأمي لذلك واستشعر سامي حرجًا من ذلك، بعد أن أصبح المدرس الخصوصي الذي يعلم شقيق الملكة فريدة اللغة الإنجليزية.
وكان من بين زملائي في الفصل الدراسي، الذي جاهدت كثيرًا لكي أتلاءم معه، عدد كبير من هواة الذهاب إلى السينما. كنت أستمتع بالسينما كثيرًا، وكيفت سلوكي وفقًا لما تقدمه من أفلام، وأخذت أحاكي ما أراه في السينما، وأصبحت مشهورًا جدًا بين أقراني في الفصل، واعتدت أن أذهب إلى السينما مرات ومرات لكي أدرس أدوارًا بذاتها من حيث الحركات وطريقة الكلم لكي أحاكيها في المدرسة».
غيرت السينما حياته، كما وضح في روايته، حين أوضح: «من خلال السينما اتسعت مداركي ومعارفي عن التاريخ العربي مثلما عرفت منها الكثير من الأعمال الأدبية العالمية، وأضحت السينما مدرستي الثانية، وخلال عام 1940، تهيأت لي الفرصة لزيارة استوديوهات السينما في مناسبات مختلفة، وأثناء إحدى هذه الزيارات، كان يجري تصوير فيلم كوميدي بطولة بشارة واكيم، وانتظرت إلى أن دخل هذا النجم الكبير إلى غرفة المكياج وغاب عن الأنظار، وتسللت إلى غرفته التي يغير فيها ملابسه، وكانت مفتوحة.
ظللت في مخبئي هذا أقلد دورًا من أدوار بشارة واكيم المشهورة بصوته وبأسلوبه المتميزين، وفجأة وجدته واقفًا أمامي وأخذتني الصدمة. أخرجني من مخبئي وعنفني أمام الماكيير المسؤول عن عمل الماكياج له، وسأل بشارة واكيم الرجل عن رأيه في أدائي فأجاب أنه ظن أنني بشارة واكيم نفسه.
وتحول بشارة واكيم إلى إنسان ودود، وسألني عن اسمي وعمري وعملي، وقال إنني موهوب أصلح للسينما، وطلب مني أن أعود بعد أن أكمل الدراسة. أحسست بنشوة غامرة، وكان قراري أن أكمل الدراسة وأصبح ممثلًا».
لم تستمر السعادة كثيرًا في قلب الفتى اليافع، ليتبدل حاله سريعًا: «في بداية عام 1943، تزوجت أختي نزيهة من الملازم أول أحمد شفيق، وتركت شقتنا التي نسكن فيها جميعًا وانتقلت أمي إلى دكرنس حيث يعيش أخوها. وكان سامي بصدد تأسيس أسرته الخاصة، وشرع في البحث عن شقة أسكنها أنا ولبيب. لم أكن آنذاك في نظر لبيب أكثر من مهرج، وكانت تروعه فكرة أن يتولى هو أمري. كان على وشك التخرج في المدرسة الثانوية التجارية وتقدم بطلب للتوظف في بنك باركليز. وأخيرًا، عثر سامي على شقة لنا في شارع الجامع الاسماعيلي، بالقرب من ميدان لاظوغلي.
وهكذا فجأة وجدت نفسي محرومًا من أمي وأختي مرة واحدة. كانت نزيهة دائمًا هي الأقرب لي دون بقية أفراد الأسرة، كانت تكتم السر، ومن ثم كنت أودعها الكثير من أسراري، والآن، على بغتة ودون توقع، فقدت كل هذا.
تذكرت أن لبيب هو صاحب فكرة إلحاقي بمدرسة تجارية. وفهمت الآن أن لا أحد يريد تولي مسؤوليتي، ومن ثم بات لزامًا أن أعتمد على نفسي، وأن أقوم بكل شؤوني في أسرع وقت. ولكي أفعل ذلك، كان يتعين علي أن أكمل دراستي، وشعرت بالصدمة حين أدركت أن أمامي عامًا دراسيًا واحدًا فقط، ينبغي لي بعده أن أعول نفسي، ولهذا تعمدت على سبيل الاحتجاج أن أرسب في امتحان نهاية العام الدراسي للصف الثالث في الأول من يونيو».
لم يتفاجأ الفتى من رد فعل أسرته على رسوبه: «أتى هذا بالنتيجة المتوقعة، وثار الجميع، فلم يحدث أن رسب أي منا في أي امتحان، وبدا ذلك غريبًا لكل الأسرة، نظرًا لأن جميع درجاتي على مدار السنوات الدراسية كانت جيدة.
تزوج سامي بابنة محرم فهيم، الذي كان آنذاك رئيسًا لنقابة المحامين، ثم انتقل مع زوجته إلى شقة في شارع دسوق في مصر الجديدة. وهكذا بقيت وحدي مع لبيب، الذي بدأ للتو عمله كاتبًا في أحد البنوك فور تخرجه من المدرسة. كانت هناك ملاحق لامتحانات نهاية العام تجري قبيل العطلة الصيفية، غير أنني كنت مصرًا على ألا أبدأ حياتي العملية مبكرًا، ومن ثم رسبت مرة ثانية».
وأكمل روايته: «ظل لبيب يندب حظه الذي ربطه بي في شقة العزوبية المشتركة. كان يقول إنني عديم القيمة وإنني التافه الوحيد في أسرتنا المحترمة. سئمت هذا الكلام، وأردت أن أغير الحال، ولكنني لم أكن أعرف كيف أفعل ذلك. اجتزت امتحان نهاية العام الدراسي للصف الثالث في يونيو 1945، بحيث لم يبق أمامي غير عام دراسي واحد.
ثم ماذا بعد؟
في عيد ميلادي السابع عشر زرت ستوديو مصر، حيث كنت قد التقيت من قبل ببشارة واكيم. كنت محظوظًا، فقد كان الرجل موجودًا وتذكرني. قلت له إنني أعتزم ترك المدرسة دون أن أدري ماذا أفعل بعد ذلك. سألني إذا ما كنت أريد أن أمثل في فيلمه، تملكني الخوف وقلت له إنني ليس عندي أدنى فكرة عن التمثيل، فقال إنني أصلح لأداء أدوار أشخاص من كل الجنسيات، كنت شابًا يبلغ طوله 5,8 قدم ( 173.7 سم)، أسود الشعر، فاتح البشرة».
كانت للمقابلة الثانية مع بشارة واكيم وقع كبير على المراهق رفعت الجمال حين يقول: «تغير بذلك مصيري، واستقر عزمي أكثر مما مضى على أن أشق طريقي ومستقبلي في السينما، وعندما أخبرت لبيب بذلك شعر بصدمة، وقال إن هذا عار ولا يليق بأحدنا أن يمتهن مثل هذا النوع من الأعمال. لم أعبأ بكلامه وقررت أن أكون جزءًا من عالم السينما الساحر، وقد ملأني الحماس لذلك، أديت دورًا صغيرًا في فيلم بشارة واكيم وكان اسمي فيه رفعت علي، واشتريت من أول ما كسبته هدية لأختي نزيهة وابنها بكر المولود الجديد، وقصدت بيتها لأراهما، واستقبلتني نزيهة رقيقة دافئة العواطف كعهدي بها دائمًا، ولسوء الحظ حضر زوجها وانفجر في غضبًا، وقال إنني إنسان بلا قلب ولا فائدة، وخرجت من عندها مجروحًا وغاضبًا».
وبعيدًا عن غضب العائلة كان «الجمال» يتحسس أولى خطوات النجاح وكان بصدد التعرف على عالم لم يعرفه من قبل: «حقق الفيلم نجاحًا باهرًا، مما جعلني أشعر بزهو كبير، وأحس زملائي في المدرسة بالفخر والغيرة مني، لم يهمهم إن كان دوري صغيرًا أم كبيرًا، وكان من الطبيعي أن يفسد لبيب علي الاستمتاع بشهرتي الجديدة، ولم يكف عن الشكوى مني والصراخ في وجهي.
وخلال العام الدراسي 1945/1946 ظهرت في فيلمين آخرين، وعقدت العزم أيضًا على أن أكمل دراستي. وأكملت بالفعل دراستي في صيف 1946 بينما كنت أمثل في فيلم جديد، وهنا قابلت «بيتي»، وهي راقصة شابة، وأصبحت أول حب في حياتي، كانت مراهقة طائشة، ولكنها كانت آنذاك ذات شأن كبير بالنسبة لي، فقد فتحت أمامي عالمًا جديدًا، كانت تكبرني بعام واحد، ولكنها كانت تفوقني تحررًا وخبرة وعلمتني الكثير، ووصل الأمر إلى أني انتقلت للعيش معها، حيث كانت تسكن قريبًا من الاستوديوهات التي تعمل بها، كانت هي أول امرأة قبلتها، وبالطبع كان الرأي السائد في تلك الأيام هو أن من مظاهر الفسق التي تستثير المشاعر أن تحيا مع امرأة لست متزوجًا بها، واستشاط لبيب غضبًا، ومع هذا فقد كنت صبيًا خامًا حين انتقلت للعيش معها وخرجت من عندها رجلًا».
بعد مغامرة قصيرة في السينما والمرور بأول علاقة عاطفية مع راقصة تدعى «بيتي»، كان «الجمال» مستعدًا لخطوات أخرى، كما يروي في مذكراته: «أخذت من (بيتي) كل ما يمكن أن يأخذه إنسان، علمتني الكثير، غير أنني أحسست أنه قد حان الوقت لكي انتقل إلى مجال آخر، إذ فقدت الرغبة في متابعة عملي كممثل، وبدأت البحث عن عمل آخر، لأنه بدون ذلك لم أكن أستطيع كسر القيود التي كبلتني بها (بيتي).
وتقدمت بطلب لوظيفة لدى شركة بترول أجنبية على ساحل البحر الأحمر، واختاروني على الرغم من كثرة عدد المتقدمين، وتسلمت العمل فورًا، ومن المؤكد أنه ساعدني في هذا أنني كنت أتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وانتقلت إلى رأس غارب، التي تقع على بعد 150 ميلًا جنوب السويس.
حاولت أن أنسى الماضي، وعملت بدأب وجد قدر استطاعتي في وظيفتي كمحاسب، وبقيت هناك لمدة خمسة عشر شهرًا، وتعلمت فيها كل ما يمكن تعلمه عن أعمال صناعة النفط وأقمت علاقات مع كثيرين من مهندسي النفط البريطانيين والأمريكيين».
جهود الشاب رفعت الجمال في الهروب من الماضي ربما كانت تؤتي ثمارها، حتى لحظة بدا أن كل ما فعله على وشك الذهاب في مهب الريح: «في خريف عام 1947، قرر رئيسي نقلي إلى المركز الرئيسي في القاهرة، غير أنني عزمت على رفض الترقية، لأنني كنت أخشى الحياة قريبًا من أسرتي، خاصة أختي نزيهة وأبناءها، إذ كنت أعرف أنني لن أحتمل أن أعيش قريبًا منها ولا أستطيع أن أراها.
وكنت قد تعرفت على أحد رجال الصناعة من الإسكندرية اعتاد أن يتردد كثيرًا على السويس لأعمال تجارية، وحاول مرارًا وتكرارًا أن يشدني للعمل في شركته التي تعمل في الكيماويات، وما أن حانت الفرصة للقائه حتى سألته عما إذا كان العرض الذي قدمه لا يزال قائمًا أم لا.
سره سؤالي ورد بالإيجاب، وانتقلت معه إلى الإسكندرية، ولأول مرة منذ أن خرجت من شقة سامي منذ خمس سنوات مضت وجدت في هذا الرجل وأسرته بديلًا لأسرتي، وقررت أن أضرب بجذوري في الإسكندرية، فالدفء والحب الأبوي اللذين حرمت منهما وجدت لهما بديلًا مضاعفًا هنا، فقد أبدى رئيس شركة الكيماويات رضاه البالغ عن عملي وشخصي حتى أنه رقاني وعاملني كأب لي، وزرت أسرته مرات وتعرفت على ابنته هدى».
ثمة علاقة عاطفية جديدة كانت تلوح في الأفق بالنسبة لـ«الجمال» لكن ما بدا بشكل سلس كان سرعان ما سيتعقد وبشدة: «اعتدت أنا وهدى أن نلتقي بين حين وآخر ونذهب معًا إلى السينما، وعرف رئيسي ذلك ولم يعترض، بل على العكس شجع علاقتنا وأفهمني أنه يرى في الابن الذي حرم منه، وحفزني هذا في المقابل على التفكير في إكمال تعليمي والانتساب إلى الجامعة.
لكن القدر أراد لي شيئًا آخر، فبعد عيد ميلادي الثاني والعشرين بقليل طلب مني رئيسي في العمل السفر إلى فرع الشركة في القاهرة لأنه غير مطمئن إلى المدير هناك، وطلب مني أراجع عمله، وسافرت إلى القاهرة حاملًا معي هدايا لأختي وأبنائها.
وعلى الرغم من شعوري ببعض الاكتئاب حين يعاودني التفكير في الماضي، ولأن أمي ماتت في دكرنس بينما كنت أعمل في رأس غارب، إلا أنني شعرت إيضًا بالفخر لأنني أعود لأختي وأنا رجل أعمال ناجح ومحترم.
فحصت دفاتر الحسابات في فرع الشركة بالقاهرة، وراجعت كل شيء آخر فيه، لم أجد أي شيء غير عادي، بل راجعت أيضًا رصيد النقدية، ووضعت الرصيد في الخزانة وأغلقتها دون أن أدري أن مدير الفرع معه مفتاح ثان للخزانة. واكتشفت في اليوم التالي ضياع مبلغ ألف جنيه مصري، وحيث أنني من الناحية الرسمية كنت الوحيد الذي يحمل المفتاح، فقد بات واضحًا أنني سرقت النقود، واتصل مدير الفرع برئيس الشركة في الإسكندرية وأبلغه أنه قد تم العثور على النقود في غرفتي بالفندق، وذلك محض كذب».
تورط «الجمال» في رحلته القصيرة إلى القاهرة، لكنه لم يهرب هذه المرة، وأوضح في مذكراته: «خجلت من جريمة لم أرتكبها وعدت إلى الإسكندرية، ولكن سرني أن رئيس الشركة قال لي إنه يصدقني، وإنني ضحية دهاء مدير الفرع، ولكن رئيس الشركة لم يستطع الإبقاء علي في وظيفتي تجنبًا لإجراء أي تحقيقات رسمية، ورتب لي فرصة الالتحاق بعمل جديد لدى صديق له يدير خطًا ملاحيًا، صدمت ولكن لم يكن أمامي خيارا آخر.
بدأت عملي كمساعد لضابط الحسابات على سفينة شحن اسمها (حورس)، وبعد أسبوعين كنت على متن السفينة لأغادر مصر لأول مرة. طال سفرنا، وتقوقعت على نفسي غير مصدق أنني أبحر بعيدًا عما أردته لنفسي. توقفنا في نابولي وجنوة ومارسيليا وبرشلونة وجبل طارق وطنجة، ثم بعد ذلك وصلنا إلى ليفربول.
وفي ليفربول أدخلت السفينة إلى الحوض الجاف، لعمل بعض الإصلاحات، وكان من المقرر أن تتجه بعد ذلك إلى بومباي، وحيث أنه كان من المقرر أن نظل وقتًا طويلًا في انجلترا، فقد بدأت مغامراتي لاستكشاف المنطقة داخل ليفربول وحولها، وذات ليلة وأنا في مرقص قابلت فتاة اسمها جودي موريس».
وكان المرقص شاهدًا على ولادة علاقة عاطفية جديدة لابن دمياط: «ذكرتني بـ(بيتي)، رقصنا معًا وقضينا أمسية رائعة، أحببتها ومارست معها كل ما تعلمته من بيتي، وقعت (جودي) في غرامي، ومنذ ذلك الحين أصبحنا نقضي معًا كل لحظة تكون فيها بلا عمل، ورحب بي أبوها، الذي كان شخصية نقابية هامة ورئيسًا للعمال في الأحواض الجافة، ودعاني لزيارتهم في البيت، وأمضيت معهم وقتًا رائعًا.
عندما تهيأت (حورس) للسفر إلى الهند بكت (جودي) بحرقة، وتوسلت إلي ألا أسافر، ولم أكن أنا أيضًا متحمسًا للسفر إلى الهند، غير أنني لم أكن أريد أن أفقد وظيفتي، ولا أن أبقى في انجلترا بطريقة غير مشروعة، ولكن (جودي) أوضحت لي أن كثيرين من البحارة يضطرون إلى استئصال الزائدة الدودية، ومن ثم يتخلفون عن السفر، وينتظرون إلى أن تعود سفنهم مرة ثانية إلى ليفربول ليلتحقوا بها، وأخبرتني أن أباها يمكنه مساعدتي في الحصول على تصريح إقامة.
قالت وفعلت، وادعيت أنني أعاني ألمًا حادًا تم تشخيصه على أنني مصاب بالتهاب الزائدة الدودية ويتطلب إجراء جراحة فورًا، وعقب إجراء العملية خرجت لأكون في رعاية (جودي)، وبعد أن شفيت بدأت أعمل مع والد (جودي) في الميناء، بعد أن رتب لي تصريحًا بالعمل.
وخلال هذه الفترة، قابلت قسًا طلب مني أن يعرف كل شيء عن الإسلام، واتفقنا سويًا أن أعلمه كل ما أعرفه عن الإسلام، ويعلمني هو في المقابل كل ما يعرفه عن المسيحية، وأسعدني أن تتاح لي فرصة أن أقدم بعض معلوماتي وأن أتعلم شيئًا جديدًا، غير أنني لم أكن مستعدًا للتخلي عن إيماني بديني، ولم تعبأ (جودي) بذلك، إذ كان كل ما تريده هو أن تتزوج مني أيًا كانت عقيدتي، وحين تأملت أحوال أسرتها وأحوالها وتدبرت أمري أيقنت أنها لا تصلح لي كزوجة، ولذلك، فإنه ما أن عادت (حورس) حتى ودعتها وصعدت إلى السفينة عائدًا إلى مصر، وودعتني (جودي) وهي تقول إنها سوف تنتظرني، ولكنني كنت على يقين من أنه لا أمل من ذلك»
«سيدات أوروبا أغرقوني بالأموال لتمضية وقت معهن» (5)
في مارس من عام 1950، عاد رفعت الجمال إلى مصر ليروي: «كنت موزع الوجدان بين الإحساس بالسعادة والحزن، لم أجد لي أسرة أعود إليها، ومن ثم قررت أن أترك البلاد ثانية بأسرع ما يمكن، عدت لأعمل مستخدمًا على متن سفينة تحمل العلم الفرنسي، وأبحرت بي لنصل بعد أربعة أيام إلى مارسيليا.
وهناك نزلت في فندق في الميناء سيء جدًا وصغير جدًا، واستثمرت إجادتي للفرنسية وسحري مع النساء وكل ما تعلمته من (بيتي)، وأفضى بي هذا إلى أن تشملني امرأتان عجوزتان برعايتهما وتتوليان أمري وتدفعان لي أجرًا مقابل صحبتهما والترفية عنهما، وظننت أن الأسلوب الذي نجح معي في مارسيليا سوف ينجح أيضًا في باريس، وربما على نحو أفضل، فشددت الرحال إلى العاصمة الفرنسية، ولم أكن مخطئًا في ما اعتقدته، إذ وجدت سيدات كثيرات دفعن لي مالًا وفيرًا مقابل تمضية وقتا ممتعا، وواجهت خطر الطرد من البلاد لأنني لم أكن أملك تأشيرة إقامة.
لهذا ركبت القطار إلى لندن زاعمًا أنني مضطر إلى استشارة الطبيب الذي أجرى لي العملية الجراحية لاستئصال الزائدة الدودية، وحصلت على تأشيرة دخول لزيارة تمتد أسبوعين. بدا الأمر مختلفًا هذه المرة فقد أصبحت جسورًا مغامرًا بصورة عدوانية وأنانية.
وقفت مستقلًا قادرًا على أن أفعل كل ما أريد، لم يعد بمقدور أحد أن يدفعني بعيدًا عن طريقي المرسوم، حققت بعض الثروة بفضل سخاء السيدات اللاتي صاحبتهن، لم يكن لي من حاجة تدفعني للسفر إلى ليفربول غير أني ذهبت إلى هناك لأرى (جودي)»
كان لقاء «جودي» هذه المرة مختلفًا بالنسبة للشاب المصري: «استبدت بها فرحة غامرة لرؤيتي جعلتها تبكي طوال الوقت، ظنت أنني عائد إليها ومن أجلها، ولم يكن هذا صحيحًا، غير أنني مكثت معها إذ أدركت أن هذه أفضل فرصة لي، وساعدني القس الذي التقيت به سابقًا في الحصول على وظيفة في وكالة للسفريات حيث بدأت العمل بحماس كبير.
كان اسم وكالة السفريات التي عملت بها (سلتيك تورز)، وكانت لدي أفكار لتطوير عملها، إذ أقنعت رئيسي بأن أسافر إلى لندن في محاولة للحصول على موافقة السفارة المصرية على أن تتولى وكالتنا تنظيم سفر الديبلوماسيين المصريين والحاصلين على منح دراسية من وإلى بريطانيا العظمى، وكنت على ثقة من نجاحي على الرغم من أن شركة (توماس كوك) كانت هي التي تقوم بهذه الأعمال وقتذاك.
ذهبت في لندن لمقابلة الملحق المصري وأقنعته بأن يوكل إلينا هذا النشاط، وأوضحت له أن أسعارنا أرخص، وأنني كابن بلد سوف أتابع ذلك لأضمن لجميع العملاء أفضل رعاية. وعدت إلى ليفربول حاملًا في جيبي عقدًا مربحًا، وبلغت عمولتي عن هذه الصفقة 2000 جنيه إسترليني».
ابتسمت الحياة مجددًا لـ«الجمال»، كما يروي في مذكراته: «كانت هذه مجرد بداية، وفي أقل من خمسة أشهر تضاعف حجم عمل وكالة السفريات وزادت حصتي إلى 5000 جنيه وأودعتها في بنك أمريكان إكسبرس مقابل شيكات سياحية بنفس القيمة، واقترحت بعد ذلك على رئيسي أن أبذل نفس المحاولة مع السفارة المصرية في نيويورك، ووافق على الفور وحجز لي تذكرة سفر إلى نيويورك. ودعت (جودي) ووعدتها بالعودة سريعًا، ولم يدر بخاطري أن هذا كان وداعنا الأخير».
وفي نيويورك، قال لي المدير المسؤول عن وكالة للسفريات حاولت التعاون معه فيما جئت لأجله إن ليفربول مدينة صغيرة ولا يمكن أن يتم فيها تنظيم السفريات لأمريكا، وامتدحني قائلًا إنني موهوب وأن علي أن أبرز مواهبي في نيويورك، وعرض علي وظيفة وقبلتها، واهتز قلبي فرحًا لنجاحي.
كان قبولي لهذا القرار يعني من الناحية القانونية أنني خدعت صاحب الوكالة الإنجليزية، وحصلت بموجب ذريعة كاذبة على تذكرة سفر بالطائرة من إنجلترا إلى الولايات المتحدة، ومن ثم كان منطقيًا أن يوجه لي رئيسي السابق في ليفربول تهمة الغش.
مع إقلاع طائرته من إنجلترا متوجها إلى الولايات المتحدة، كان فصلا جديد يستعد أن يكتب في قصة حياة رفعت الجمال: «بقيت في نيويورك وحولت شيكاتي السياحية إلى دولارات، بما يساوي قيمة ما معي من جنيهات إسترلينية مرتين ونصفًا، وأصبحت بذلك أملك اثني عشر ألف دولار ملكية قانونية، غير أن إقامتي في الولايات المتحدة لم تكن قانونية لأني لم أحصل على بطاقة التأمين الاجتماعي الخضراء، التي تضفي على وجودي وضعًا قانونيًا، وبدأ موظفو إدارة الهجرة يهتمون بي، لذلك رحلت إلى كندا، حيث تقدمت بطلب للحصول على تأشيرة دخول للزيارة في مطار مونتريال، وحصلت على التأشيرة لزيارة مدتها أسبوع، وعلى أية حال، فلم أكن أرغب في البقاء أطول من ذلك لأن كندا كانت جزءً من الكومنولث البريطاني، وهو ما من شأنه أن يسبب مشكلة لي.
تم وضع اسمي في القائمة السوداء في الولايات المتحدة، ومن ثم توجهت إلى فرانكفورت في ألمانيا، حيث حصلت على تأشيرة عبور لمدة 48 ساعة، ومن هناك طلبت السفر إلى النمسا، غير أن الأمور جاءت على غير ما أريد».
وفي ألمانيا، وقبل أن يرحل إلى النمسا كانت مفاجأة بانتظاره، مفاجأة في صورة امرأة: «في مطار فرانكفورت، قابلت فتاة شقراء عرضت علي مساعدتها، ولتأمين نفسي من المفاجآت، خبأت نقودي عندما ذهبت لقضاء ليلة معي في غرفتي بالفندق، وبالفعل وجدت النقود كما هي في صباح اليوم التالي، لكن الفتاة كانت قد اختفت ومعها جواز سفري.
توجهت إلى القنصلية المصرية وأبلغت عن فقدي لجواز السفر، وتقدمت بطلب للحصول على جواز جديد، وألمح القنصل إلى أنني بعت جواز سفري لأن كثيرين من النازيين السابقين كانوا آنذاك يحاولون الخروج من البلد، ومن ثم يشترون جوازات سفر أجنبية ليسافروا بها.
وبعد يومين أوقفتني الشرطة للتحقق من شخصيتي، واحتجزوني مؤقتًا في حجز قضائي، وأحالوني إلى القضاء، وأودعوني الحبس بتهمة الإقامة غير المشروعة، وصدر ضدي حكما بعد ثلاثة أشهر بدفع غرامة كنت قد استنفذت قيمتها خلال فترة احتجازي إلى حين المحاكمة، ورحلوني قسرًا على متن أول طائرة إلى القاهرة».
زورت 3 جوازات سفر فاعتقدوا أنني يهوديًا وألقوا بي في السجن (ح 6)
في مايو 1951، كانت العودة الثانية لرفعت الجمال لأرض الوطن، ويروي عنها: «عدت إلى القاهرة مرة ثانية في مايو 1951، ومعي مبلغًا كبيرًا من المال ولكن بدون جواز سفر، وتقدمت بطلب للحصول على جواز سفر جديد ولكن طلبي رفض، لأن القنصل المصري في فرانكفورت أرسل تقريرًا عن الحادث الذي وقع لي إلى القاهرة. وأصبح بلدي سجنًا كبيرًا بالنسبة لي، وقررت البحث عن مكان لي فيه.
فكرت في أن أفضل فرصة متاحة لي بفضل قدراتي في اللغات هي العمل في شركة قناة السويس، ولكنني كنت بحاجة إلى وثائق هوية للسفر إلى هناك، فتعرفت على رجل يزور ويبيع جوازات السفر، وأعد لي جواز سفر باسم علي مصطفى، كانت الوثيقة أصلية غير أن الصورة هي فقط التي أبدلت بصورتي.
وفي يونيو 1951، سافرت إلى قناة السويس باسم علي مصطفى، اجتزت الكثير من نقاط التفتيش والتحقق ونجحت هويتي المزيفة، وحصلت على وظيفة في شركة القناة، وسارت الأمور سيرًا حسنًا إلى أن بدأ البريطانيون في شهر أكتوبر في فحص الهويات بتدقيق أكثر».
شعر «الجمال» بالخطر فتصرف على الفور: «قررت ترك هذه المنطقة والعودة إلى القاهرة، حيث حاولت الحصول على هوية جديدة لمواطن من دولة محايدة مثل سويسرا، ووجدت ضالتي وأصبحت الآن صحفيًا من جنيف اسمه (شارلز دينون)، كنت لا أزال أملك 12 ألف دولار في صورة شيكات سياحية لأني كنت قبل ذلك أنفق على معيشتي من راتبي من شركة القناة، ارتديت ملابس أجنبية ونزلت في فندق دولي.
وفي تلك الفترة وقعت في القاهرة اضطرابات سياسية وبدأت الشرطة تحركات مكثفة للتنقيب والتحقق، ومن ثم كان لابد وأن أنهي إقامتي سريعًا، وقررت في مارس 1953 مغادرة هذه المدينة باسم الصحفي السويسري شارلز دينون.
ركبت القطار إلى الإسكندرية ومعي شيكاتي السياحية، مقتنعًا بأن أفضل شيء لي هو مغادرة البلاد، سعيت للحصول على جواز سفر جديد بشخصية جديدة، وحصلت بالفعل على جواز سفر بريطاني باسم (دانييل كالدويل)، وعزمت على الخروج من مصر عبر ليبيا متجهًا مباشرة إلى بنغازي، عن طريق التطفل على السيارات العابرة (أوتوستوب)».
استطاع «الجمال» أن يوقف إحدى السيارات والصعود على متنها: «سارت الأمور على خير وجه وعبرت الحدود إلى ليبيا وكانت آنذاك مجرد سور صغير. وبعد أن قطعت عشرين ميلًا داخل حدود ليبيا، التقيت بدورية عسكرية بريطانية، لم تساورني أي شكوك بالنسبة لسلامة هويتي الشخصية، كنت على يقين من أنني سأجتاز عملية التحقق هذه دون مشكلات، ولكنني كنت مخطئًا، إذ وقف الضابط المسؤول قبالتي وسألني عن جواز سفري، فناولته جواز السفر، وقد ارتسمت على شفتي ابتسامة عريضة، متأكدًا من أنني سوف أجتاز هذا الاختبار الصغير.
وسألني:
– هل أنت دانييل كالدويل
أجبت دون اكتراث:
– نعم يا سيدي. مؤكد أنا.
– هل يمكنني أن أرى جميع الوثائق الأخرى التي تحملها معك؟
– يقينًا.
هكذا أجبته للمرة الثانية، وأنا أناوله حافظتي الجلدية.
تفحص كل شيء بداخلها بدقة شديدة، ثم سألني ثانية:
– هل أنت دانييل كالدويل؟
– نعم.
ثم رددت عليه بسؤال آخر:
– ومن تظنني إذن سواه؟
كنت قد فكرت في كل شيء إلا في شيكاتي السياحية، إنها باسمي الحقيقي، اشتد توتري وجاهدت للخروج من الموقف.
وعاد الضابط ليسألني:
– إذا كانت هذه الشيكات لك إذن فما هو اسمك؟
أجبت:
– دانييل كالدويل.
سألني:
– ومن هو صاحب هذه الشيكات؟
أجبت:
– أنا
قال:
– هذه الشيكات بحاجة إلى توقيع ثان عند صرفها، وحيث أن التوقيع الأول لشخص اسمه رفعت الجمال، فكيف لك أن تصرفها؟
وكانت الإجابة الوحيدة والشديدة الغباء التي يمكن أن أدلي بها هي قولي:
– هذه ليست مشكلة، سوف أوقع رفعت الجمال.
قال الضابط بجفاء:
– أخشى أن تكون هناك مشكلة، هذا تزوير في وثائق رسمية.
واستطرد قائلًا:
– إما أنك البريطاني دانييل كالدويل، أو المصري رفعت الجمال، أم أن لديك رأيًا آخر؟
صحت به:
– وماذا يعنيك أنت في هذا؟ أنا مجرد عابر طريق، وسوف أترك بنغازي مباشرة، وأموري المالية ليست من شؤونك.
ولكن الضابط قال:
– ولكنك بريطاني يا سيدي كما تقول، وهذا يهمني، ربما كنت جنديًا فارًا من الجيش، فكثيرون من الجنود يفرون من وحداتهم في الإسكندرية. آسف ولكن واجبي يقتضي التحري عنك في لندن.
سألته:
– وماذا لو أنني لست مواطنًا بريطانيًا؟
أجاب:
– إذا لم تكن بريطانيًا، فإن معنى هذا أنك مزور لهويتك الشخصية، وحيث أنك قادم من الحدود المصرية، فسوف اضطر إلى إعادتك إلى السلطات المصرية.
وكان سؤالي الوحيد:
– ثم ماذا بعد؟
– قال: هذه مشكلة السلطات المصرية، غير أن لدي انطباعًا بأنك لست بريطانيًا ولا مصريًا، أظن أنك يهودي مصري، واحد من أولئك الكثيرين من اليهود الذين يحاولون شق طريقهم من مصر إلى إسرائيل، إنك مجرد ديفيد آرونسون آخر من عديدين».
تعقدت الأمور على الشاب المصري، و«كان الموقف ميؤوسًا منه، وما هو مقدر لابد منه، أعادوني إلى السلطات المصرية، وحططت الرحال داخل أحد أقسام الشرطة في الإسكندرية. أخذ الضابط البريطاني جواز سفري المزور، وهو الشيء الوحيد الذي كان يعنيه وأرسله للتدقيق والمراجعة.
وفي الإسكندرية مثلت أمام القاضي الذي جابهني قائلًا إنني يهودي، ديفيد آرونسون، أحاول مغادرة مصر بأوراق مزورة وشيكات سياحية مسروقة، ودار حوارا مع القاضي دفاعًا عن نفسي باللغة العربية، وزاد هذا الطين بلة وجعلني في موقف أسوأ، ذلك أن الذنب الذي اقترفته، في نظر القاضي، تأكد من خلال كلامي بلغة عربية مصرية. توقفت عن الحوار ورفضت كل ما عدا ذلك، ورحلوني إلى مصر الجديدة في القاهرة لأن اسم رفعت الجمال مسجل هناك.
وفي القاهرة بدأ كل شيء دورته من جديد، استجوبوني ولم أجب، وبقيت في الحجز عدة أيام، وذات يوم أحضروني إلى أحد المكاتب، وتوقعت المزيد من الاستجواب. رأيت في انتظاري رجلًا ضخم البنية، يوحي بالجدية، يرتدي ملابس مدنية، هادئ الصوت في ود حين يلقي أوامره.
وجه كلامه للحارس الذي اصطحبني قائلًا: يمكن أن تتركنا الآن وحدنا.
واتجه ناحيتي وطلب مني الجلوس، جلست وفي داخلي قلق حقيقي يسيطر علي مزاج عنيد وملل وضيق مما سيأتي، فقد سأمت وضقت ذرعًا من القيود التي وضعوني فيها، وعندما قدم لي الجالس قبالتي سيجارة ثنيت يدي في هدوء فانسلتا خارج القيد الحديدي، تردد الرجل لحظة، ولكنه لم ينطق بشيء، ولم يستدع الحارس، جلس خلف مكتبه، الذي أجلس قبالته، وقد رسم على شفتيه ابتسامة وهو يتطلع إلي